القائمة الرئيسية

الصفحات

تداعيات عن دمشق عندما كانت هانوي العرب والثورة الفلسطينية؟!

تداعيات  عن دمشق عندما كانت هانوي العرب والثورة الفلسطينية؟!

أبا سليمان.. خالد في الوجدان
والذاكرة والتاريخ
  
شاءت أقدارنا أن نتعرّف على خالد الجندي ورفاقه البعثيين المناضلين في حركة 23 شباط، مع اطلاله أيلوننا الأسود عام 1965، عندما أقدمت إمارة الكويت بشكل مبكر وبدون سابق إنذار، على إبعاد نحو خمسة آلاف مواطن فلسطيني من نشطاء حركة فتح ونوياتها الأولى، بالإضافة لممثلى بعض الأحزاب السياسية العربية، من العاملين في المؤسسات الحكومية والرسمية والنفطية، بتهمة أنهم فلسطينيون وقوميون وتقدميون!!
وهكذا بين عشية وضحاها، وجدنا أنفسنا مع عائلاتنا على قارعة الأرصفة تحتضننا دمشق برحابة صدرها، لكنها كانت هجرة مفاجئة أخرى وتكرار لتجربة اللجوء والتشرد من جديد!!
ومثلما إحتضنت سورية الثورة من قبلنا الفدائي البعثي المشّرد من العراق، صدام حسين .. إحتضنت كذلك ورعت الإرهاصات الأولى للقائد الفدائي الفلسطيني ياسر عرفات الذي أجهده البحث عن "هانوي" عربية لتكون منطلقاً لثورته الفلسطينية الجديدة.
وكما وجد صدام حسين، ومن بعده ياسر عرفات ورفاقه ركناً دافئاً وفسيحاً في قلب ومكتب خالد الجندي ورفاقه في القيادة، ومن عمل معه أيضاً من كوادر نقابية وعمالية، وجد بعض من أُبعد وتم تهجيره من الكويت في أيلول اللاهب، ذلك الركن يزداد إتساعاً، لإستيعاب جيل كامل من أحرار العرب من عدن حتى تطوان ممن شردتهم الرجعية العربية وأجهزتها البوليسية في أعقاب محاولات إعادة تجربة الوحدة المصرية - السورية - العراقية التي جاءت رداً على مؤامرة الإنفصال بين قطري الجمهورية العربية المتحدة "مصر وسورية".
وقد سبق حملة الترانسفير الكويتية تلك .. أن تعرض أحد قادة حركة فتح في لبنان الشهيد جلال كعوش لجريمة إغتيال بشعة على يد جهاز المخابرات اللبناني المدعو (المكتب الثاني).. وقد أحدثت تلك الجريمة ردود فعل عنيفة في الأوساط الفلسطينية والعربية والسورية بشكل خاص.. حيث إتخذت قيادة 23 شباط قراراً بإعتبار الشهيد كعوش بطلاً قومياً وتشييعه بهذه الصفة، ودفنه في مقبرة الشهداء بضواحي دمشق.
وهكذا شهدت شوارع دمشق أول مسيرة عسكرية وحضور علني لكتائب فدائيي العاصفة الملاحقين عربياً، ملثمين بالكوفية وبكامل زيهم العسكري وأسلحتهم في مراسم تشييع أحد قادتهم.. وبذلك أعلنت قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي على الملأ، بأن دمشق هي "هانوي" حركة فتح وقواتها العاصفة، والقاعدة المتقدمة والآمنة للثورة الفلسطينية.. وكانت بهذا القرار ترّد على قرار جامعة الدول العربية والقيادة العربية الموحّدة للجيوش العربية المشكّلة حينذاك، والذي يقضي بمنع حركة الفدائيين الفلسطينيين على إمتداد حدود دول الطوق المحيطة بفلسطين وملاحقتهم وإعتقالهم بدعوى  أنهم يقومون بعمل "توريطي"؟!
في ظل هذه الأجواء تعرفنا على خالد الجندي ورفاقه، من جيل المبدئيين الثوريين، وكان من البساطة والسهولة على أي منا، أن يمضي في ذات مساء إلى مطعم (أبو كمال) في حي السبع بحرات بدمشق ليلتقي مع من يشاء من أعضاء المؤسسة القيادية السورية، ويجد حلاً لمشكلته مهما كانت .. ومن مطعم أبو كمال، إلى نادي الضباط القريب منه، كان يمكن للمراقب أن يلاحظ ويلمس ويستقرىء، حجم الأحلام الكبيرة، التي كانت تراود هذه القيادة الشابة، من أجل تحويل شعار: الوحدة والحرية والإشتراكية إلى واقع حياتي ملموس تقطف ثماره جماهير الأمة المتلهفة للخلاص والإنعتاق والتحرر.
كان مايسترو المجموعة وعقلها المفكّر .. صلاح جديد يجهد نفسه في ذلك الوقت متسلحاً بكل مخزون فكره وثقافته ورصانته وصلابته العسكرية المتأصلة، من أجل جمع تيارات وإتجاهات وفروع الحزب العسكرية والمدنية في سورية وأقطار الوطن العربي، في إطار القيادتين القطرية والقومية للحزب.
وبعيداً عن الخوض في تقييم التجربة والحكم عليها في تلك الفترة، لأننا نعتقد أن ذلك من حق أصحابها البعثيين ومسؤوليتهم أولاً، وقد عايشوها بحلوها ومرّها، كما عايشناها نحن معهم، ولكن تلك كانت تجربتهم، وقد كانت بحق تجربة قومية فذة بكل المقاييس والمعايير سواء أكانت في دمشق أو في بغداد أو القاهرة،  فقد إفتقدناها، وإفتقدنا زخمها وأصالتها ونبل أهدافها.
لكن ما نحن بصدده الآن أن نذكر ونتّذكر جيلاً من القوميين العمالقة من رفاق خالد، منهم من قضى نحبه قتيلا، أو شريداً، أو سجيناً أمثال.. صلاح جديد، ونور الدين الأتاسي، ومحمد رباح الطويل، وعبد الكريم الجندي، وسليم حاطوم، وعلي صالح السعدي، وكمال ناصر، وقد لحق بهم جيل المؤسسين الرواد الأوائل.. الأستاذ ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني.. والجيل الذي ينتظر وهو قابض على جمر الفكرة والمبدأ وما بدّلوا تبديلا .. وها نحن معهم نترقب على أرصفة الثورة، وموانىء المنافي والإنتظار لأول بارقة أمل تبشّر بنهوض وبعث جديد لروح الأمة المنكسرة.
ما يعزينا أن خالد الجندي، عاشق الحياة حتى الثمالة، قد إختطفه الموت العادي في غفلة منه ومنّا، مستخدماً هذه المرة "الجلطة الدموية" بديلاً لطلقة كاتم الصوت، التي إعتدنا عليها.. وعزائي الأكثر أن فلسطين قد أوفت بعهدها ووعدها له، فقد شيعه محبوه ورفاقه على عربة عسكرية محفوفة بكل المراسيم الرسمية التي تليق بقائد فذ، وفي مقبرة الشهداء بغزة، أطلق له أشباله من القوة البحرية التي إحترفت الغوص في بحر اللاذقية وبانياس وجبلة، إحدى وعشرين طلقة تكريماً لروحه الخالدة فينا.
لكن ما يقلقنا يا خالد، يا إبن جيل العمالقة، وقد غادرنا من قبلك أميل حبيبي، وتوفيق زياد، وروحي الخطيب، وقبل ذلك جيل كامل من القادة الفدائيين نفتقدهم الآن، ونحتاجهم في هذه السنوات العجاف. ان الروح قد تعبت، ولم تعد تقوى على تحمل أوزار الموروث والتركة، وعبء الغياب. لم يعد كافياً أن نقول في وداعكم وذكراكم، بأن حضوركم دائم، وإننا على العهد ماضون.. لأنكم تدركون في زمن الإنكسار فداحة الغياب وقسوته في وقت نحتاج فيه لحكمة الرواد وصلابة إرادتهم، وصواب تفكيرهم.


"رئيس التحرير"

 
وعلى مثل هؤلاء الرجال، تبكي البواكي...

تعليقات